من الواضح الآن أن أداء الميزانية العامة لحكومة السودان خلال الثلث الأول من هذا العام (من يناير إلى أبريل)، جاء مختلاً لأن الدخل المقدر لهذه الفترة جاء أقل من المتوقع في حين ظلت المصروفات على حالها، وهو أمر اقتضى أن تتخذ وزارة المالية والاقتصاد الوطني إجراءات لمواجهة هذا العجز. إن أهم الأسباب التي أدت إلى انخفاض الإيرادات هي تدني إنتاج واحدة من مناطق النفط في أعالي النيل، إضافة إلى أن أسعار المنتج من ذلك النفط جاءت أقل من المقدر إذ كان دون المستوى. وهي ذات الأسباب التي أدت إلى خلل في أداء الميزانية العامة في السنة الماضية، حيث قررت الحكومة مواجهته برفع أسعار بيع المحروقات محلياً إضافة إلى زيادة في سعر بيع السكر للمستهلك المحلي، وهو قرار أثار غضباً جماهيرياً في حينه ولجأت الحكومة إلى حظر مظاهرات الاحتجاج ضده ومنعها بالقوة. أما العجز الحالي، فقد قررت الحكومة مواجهته برفع نسبة ضريبة القيمة المضافة لأثمان السلع من 10 في المئة إلى 12 في المئة، وهي ضريبة عامة يقع عبؤها على المواطن العادي مما يضاعف من المعاناة الحالية. ويتفق كثير من المعلقين الاقتصاديين والماليين على أن الخلل الذي أصاب الميزانية والإجراءات التي ابتدعتها الحكومة حتى الآن، تعكس اضطراباً في السياسات المالية، مما ستكون له آثار ضارة وسالبة في مجمل الأداء الاقتصادي. فبالإضافة إلى العبء الضريبي الجديد، فإن هذه الحلول ستؤدي إلى ارتفاع في نسبة التضخم الحالية مما ستكون له آثاره السالبة في مجال الاستثمارات بكل أنواعها، أضف إلى ذلك أن المنتجات المحلية ستكون عاجزة عن المنافسة في سوق حرة بعد أن ارتفعت الضرائب عليها بنسبة 50%، بل إن بعض رجال الاقتصاد يتوقعون أن تؤدي الإجراءات الجديدة إلى ما يشبه أو ما يقارب الانهيار الاقتصادي. لقد لجأت الحكومة لسد العجز في ميزانيتها العامة إلى أسهل الطرق وأكثرها ضرراً للمواطن العادي. ويعيب المعلقون الاقتصاديون على الحكومة أنها لم تلجأ إلى إجراءات أخرى أكثر عدالة وواقعية، منها خفض النفقات الحكومية التي تشكل إسرافاً واضحاً في كثير من الحالات. إن هذا التدني في الإيرادات بينما تواصل النفقات ارتفاعها، يأتي في وقت عصيب في مجمل الأداء المالي للسودان، ومن أهم مظاهر تلك الأزمة تزايد عدد إضرابات العاملين عن العمل من العمال والمهنيين لأن المستخدم، وهو في هذه الحالات الحكومة، عجز عن دفع المرتبات المستحقة للعمال خلال فترات تمتد أحياناً إلى أربعة شهور. لقد أصبحت إضرابات العاملين عن العمل ظاهرة تتكرر كل يوم وتشمل قطاعات مهمة مثل معلمي المدارس والعمال في مناطق الإنتاج الرئيسية مثل مشروع الجزيرة وغيره. لقد حذر كثير من خبراء الاقتصاد من أن اعتماد السودان على إنتاج البترول وحده كسلعة لها مردود من العملات الحرة، أمر بالغ الضرر، وأشاروا إلى ما لحق ببلدان أخرى مثل نيجيريا التي يعاني اقتصادها لاعتماده على البترول وحده، ولهذا فقد كانت هناك محاولات للانتباه أكثر وأكثر للإنتاج الزراعي والحيواني، وأعلنت الحكومة في العام الماضي أنها قررت أن تقود حملة لما سمي "النفرة الزراعية" والتي بدأ تطبيقها هذا العام، لكن من الوضح الآن وبعد انقضاء ثلث العام، أن النفرة المشار إليها لم تحقق عائداً يذكر. إن هذه هي الصورة العامة للوضع الاقتصادي في السودان، وهي صورة لا تعكس ما يبشر بالكثير ولا فكاك من هذا الواقع إلاّ إذا تبدلت وتغيرت السياسات المالية والاقتصادية الحالية.